الاسلام والغرب
تقاس قوة المجتمعات بالموارد التي تمتلكها، ومن أهم هذه الموارد بالنسبة للمجتمعات البشرية هم البشر أنفسهم. فبغير البشر يصبح الأمر لغوا ولن يمكن توظيف الموارد الأخرى المتوافرة كالموارد الطبيعية والاقتصادية وغيرها من الموارد.
وأفراد المجتمع لا يشكلون قوة فاعلة بعددهم فقط وإنما بالطاقة والكفاءات التي يحملها كل فرد من المجتمع، واختلاف هذه الطاقات يولد القدرات الإبداعية في مختلف المجالات.
ولا تشكل الكفاءات هذه منعزلة القوة الوحيدة لأولئك الأفراد وإنما يجب أن تكون مقرونة بالنضج الفردي وهو الذي يرفع من مستوى أولئك الأفراد. فالإنسان هو الصورة المصغرة للمجتمع، بمعنى أنه إذا أردنا معرفة المصير الذي يؤول إليه المجتمع تحتم علينا أن ندرس حياة الفرد العادي فيه وما يؤول إليه حتى نعرف مصير المجتمع بكامله.
ولذلك تحتم على أي مجتمع أن ينضّج أفراده بأقصى ما يستطيع حتى يكتسب قوة لفترة أطول. ومقياس النضج هو مربط الفرس في هذا الأمر، وما يجعله عملية معقدة هو مرور الفرد - ذكراً كان أم أنثى - بمراحل ومشاكل مختلفة في الحياة لكل منها تعقدياتها وأسبابها ونتائجها.
فعندما يبلغ الفرد مرحلة المراهقة تبدأ التغيرات البدنية والنفسية بالظهور والتأثير على تصرفات المراهق، والتحديات الجنسية هي أول وأهم ما يمر به من مشاكل، وبعد تجاوز هذه المرحلة تبدأ نزعات أخرى بالظهور أهمها حب المال والرغبة في الثراء السريع أو الثراء على حساب أي شي آخر، وبعد أن يتقدم به العمر تظهر نزعة أخرى بالإضافة إلى الاثنين المتقدم ذكرهما وهي الرغبة في التسلط على الآخرين والتحكم بأمورهم. أي أن الإنسان يواجه في نهاية الأمر ثلاثة أمور: الغريزة الجنسية، حب المال، والرغبة في التسلط.
وهنا تأتي أهمية النضج في مواجهة هذه التحديات، ولكن المشكلة أن للنضج تعريفين مختلفين:
الأول - غربي - يعتمد على التلقين والاستيعاب. فالفرد يعتبر ناضجاً بالقدر الذي يكون فيه مستعداً لاستيعاب ما يدور حوله من أمور وحوادث. وخير دليل على هذا الأمر هو نظام تصنيف الأفلام المتبع في الغرب، فعندما يكتب على الفيلم أنه مناسب للشباب من أعمار الخامسة عشرة فما فوق إنما يعني بذلك أن من يبلغ الخامسة عشرة قادر على أن يفهم ما يدور في ذلك الفيلم دون أن تتأثر نفسيته سلبياً في المستقبل، وكذلك الأمر بالنسبة للأفلام المخصصة للأعمار المختلفة. ولا يقتصر الأمر على الأفلام فقط وإنما يعتداه إلى الأمور الحياتية المختلفة كالقدرة على اتخاذ الآراء والتي تفترض بالفرد أن يكون قابلاً لاستيعاب الخيارات المطروحة له، وكذلك الأمر بالنسبة لمعاقرة الخمر والتدخين أو ما شابه ذلك.
أما التعريف الثاني فهو الذي يتنباه الإسلام وهو لا يتوقف بالفرد عند قدرته على الاستيعاب وإنما يتجاوزه إلى قدرة ذلك الفرد على العطاء. والعطاء هنا لا يعني ما يكون محسوساً فقط كتأليف الكتب أو حل المعادلات وإنما يشمل حتى التصرفات اليومية والأخلاق التي يتنباها الفرد وأهمها تلك التي تحفظ للمجتمع بقاءه كنوع بشري على هذه الأرض.
ويمكن القول بأن النضج في الإسلام هو يعني نقل الفرد من مستواه الأدنى إلى مستوى الإنسان المسيطر على غرائزه وانفعالاته. هناك قاعدتان في علم الاجتماع الأول تقول بأن المرأة هي "مرحلة بين الطفولة والرجولة" والأخرى تقول بأن "الرجل هو طفل كبير"، وبناء على هذين القاعدتين خصص الإسلام لكل من الجنسين قاعدة تحدد مدى نضوج الفرد.
القاعدة الأولى هي العفة وذلك مخصص للأنثى لكي تنتقل من مرحلة الأنثى - في الحياة العامة - إلى مرحلة الإنسان، والثانية هي العقل وهذا مخصص للذكر حتى يسيطر على غرائزه ومن ثم يصبح إنساناً - في حياته العامة - لا كائناً غريزياً لاهثاً خلف شهواته.
والسبب في تخصيص مقياس مختلف لكل من الجنسين هو أن لكل منهما اهتمام مختلف فيما يتعلق بتركيبته. فالعفة تلاءم طبيعة المرأة التي تهتم بجمالها في غالب الأحيان، ونضوج العقل يتناسب وطبيعة الرجل المتعلقة بالغرائز.
ويمكننا استخلاص أن النضج في الإسلام هو مطلب اجتماعي بالدرجة الأولى وليس فردياً بحتاً، فنضج الفرد يعرف من خلال طريقة ارتباطه وتعامله مع المحيط حوله، ولربما هذا يفسر أهمية منظومة الزواج في النظرية الإسلامية أو الدينية بشكل عام. فالزواج هو الذي يحدد علاقة الذكر بالأنثى على أسس النضج التي ذكرناها، وهي التحكم بالغرائز والمظهر، وتخصيص ذلك في علاقة الزواج فقط.
وإذا عرفنا الثقافة بأنها الأخذ من كل خيط معرفي بطرف وعرفنا المثقف بأنه من تنعكس معلوماته وثقافته على تصرفاته وأحكامه في الحياة، جاز لنا أن نسمي الثقافة نضجاً والمثقف ناضجاً.
بقي أن نذكر بأن كل ما ذكر هو تعريف نظري فقط لا يرتبط بالضرورة بالواقع المعاش في كل الطرفين، فالغرب ليس خالياً من أناس ناضجين اجتماعياً وثقافياً - وهم كثر - وهناك في العالم الإسلامي من لم يصل حتى إلى مرحلة الاستيعاب.